فصل: الحديث الخَامِس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّانِي:

عَن سهل بن سعد السَّاعِدِي رَضي اللهُ عَنهُ «أَن عُويْمِر العَجَلاني قَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فيقتله فَتَقْتُلُونَهُ أم كَيفَ يفعل؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد أنزل الله فِيك وَفِي صَاحبَتك فَاذْهَبْ فَائت بهَا. قَالَ سهل: فَتَلَاعَنا فِي الْمَسْجِد وَأَنا مَعَ النَّاس عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَزَادا: «فَلَمَّا فرغا قَالَ عُوَيْمِر: كذبت عَلَيْهَا يَا رَسُول الله إِن أَمْسَكتهَا. فَطلقهَا ثَلَاث قبل أَن يَأْمُرهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْن شهَاب: فَكَانَت سنة المتلاعنين». وَفِي رِوَايَة لَهما بِنَحْوِهِ، وأدرج فِيهِ قَوْله: «وَكَانَ فِرَاقه إِيَّاهَا بَعْدُ سُنَّةً فِي المتلاعنين» وَلم يقل: أَنه من قَول الزُّهْرِيّ، وَزَاد فِيهَا: قَالَ سهل: وَكَانَت حَامِلا فَكَانَ ابْنهَا ينْسب إِلَى أمه ثمَّ جرت السّنة أَنه يَرِثهَا وترث مِنْهُ مَا فرض الله لَهَا وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد «حضرت لعانهما عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة».
وَهَذِه فِي البُخَارِيّ بِلَفْظ: «شهِدت المتلاعنين وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة».
فَائِدَة: الْجُمْهُور عَلَى أَن آيَة اللّعان نزلت بِسَبَب هِلَال هَذَا لَا بِسَبَب عُوَيْمِر، وَهُوَ أول رجل لَاعن فِي الْإِسْلَام، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي الْكتاب حَيْثُ قَالَ: ذكرُوا أَن الْآيَات وَردت فِي قصَّة هِلَال بن أُميَّة، وَقَوله فِي الْقِصَّة الثَّانِيَة: «أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك» حمل عَلَى أَن المُرَاد أَنه بَين حكم الْوَاقِعَة بِمَا أنزل فِي حق هِلَال، وَالْحكم عَلَى الْوَاحِد حكم عَلَى الْجَمَاعَة. وَجمع النَّوَوِيّ فِي شَرحه لمُسلم بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: يحْتَمل أَنَّهُمَا نزلت فيهمَا جَمِيعًا، فلعلهما سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ متقاربين فَنزلت الْآيَة فيهمَا وَسبق هِلَال بِاللّعانِ، فَيصدق أَنَّهَا نزلت فِي هَذَا وَذَاكَ، وَأَن هلالاً أول من لَاعن. ثمَّ اعْلَم أَنه وَقع فِي الْوَسِيط تبعا لإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْقَاضِي حُسَيْن: عُوَيْمِر بن مَالك، وَلَا أعلم لَهُم سلفا، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن أَبيض، أَو ابْن الْحَارِث، أَو ابْن أشقر كَمَا أوضحته فِي تخريجي لأحاديثه فَتنبه لذَلِك، وَوَقع فِي كَلَامه شَيْء آخر قد نبهت عَلَيْهِ فِي الْكتاب الْمَذْكُور فَرَاجعه مِنْهُ.

.الحديث الثَّالِث:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحهمَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الله كتب عَلَى ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِكَ لَا محَالة، فزنا الْعين النّظر، وزنا اللِّسَان النُّطْق، وَالنَّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ ويكذبه» وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «كتب عَلَى ابْن آدم نصِيبه من الزِّنَا مدرك ذَلِكَ لَا محَالة، فالعينان زناهما النّظر، والأذنان ذناهما الِاسْتِمَاع، وَاللِّسَان زِنَاهُ الْكَلَام، وَالْيَد زنَاهَا الْبَطْش، وَالرجل زنَاهَا الخطا، وَالْقلب يهْوَى ويتمنى، وَيصدق ذَلِكَ الْفرج ويكذبه».
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا مَرْفُوعا: «العينان تزنيان، وَاللِّسَان يَزْنِي، وَالْيَدَانِ تزنيان، وَالرجلَانِ تزنيان ويحقق ذَلِكَ الْفرج ويكذبه».
وَفِي الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير من حَدِيث همام، عَن عَاصِم، عَن أبي الضُّحَى، عَن مَسْرُوق، عَن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «العينان تزنيان، وَالْيَدَانِ تزنيان، وَالرجلَانِ تزنيان».
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده، عَن عَفَّان، عَن همام بِهِ.

.الحديث الرَّابِع:

«أَن رجلا أَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها، قَالَ: أمْسكهَا».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان، عَن هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، قَالَ: «أَتَى رجل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: طَلقهَا. فَقَالَ: إِنِّي أحبها قَالَ: أمْسكهَا إِذا». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه فِي بَاب تَزْوِيج الْأَبْكَار فَقَالَ: كتب إليَّ حُسَيْن بن حُرَيْث الْمروزِي: ثَنَا الْفضل بن مُوسَى، عَن الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا تمنع يَد لامس. قَالَ: غربها. قَالَ: أَخَاف أَن تتبعها نَفسِي. قَالَ: فاستمتع بهَا».
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي بَاب تَزْوِيج الزَّانِيَة، عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا يزِيد، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة وَغَيره، عَن هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر. وَعبد الْكَرِيم، عَن عبد الله بن عبيد، عَن ابْن عَبَّاس- رَفعه إِلَى ابْن عَبَّاس، وَهَارُون لم يرفعهُ- قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن عِنْدِي امْرَأَة من أحب النَّاس إِلَيّ، وَهِي لَا تمنع يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: لَا أَصْبِر عَنْهَا. قَالَ: استمتع بهَا».
وَهَذِه الْأَسَانِيد كل رجالها ثِقَات: سُفْيَان لَا يسْأَل عَن مثله، وَهَارُون من رجال م، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَغَيره. وَعبد الله بن عبيد الله من رِجَاله أَيْضا، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَإسْنَاد رِوَايَة الشَّافِعِي هَذِه غير مُتَّصِلَة، وحسين بن حُرَيْث من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيره. وَالْفضل بن مُوسَى هُوَ السينَانِي- بسين مُهْملَة مَكْسُورَة، ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ نون، ثمَّ ألف، ثمَّ نون، ثمَّ مثناة تَحت- نِسْبَة إِلَى سينان- قَرْيَة من قرَى مرو- من رجال الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَالنَّاس. وَالْحُسَيْن بن وَاقد، أخرجَا لَهُ أَيْضا ووثق. وَعمارَة من رجال البُخَارِيّ، ووثق. وَعِكْرِمَة أحد رِجَاله وَهُوَ أحد الْأَعْلَام. وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل شيخ النَّسَائِيّ قَالَ هُوَ فِي حَقه: حَافظ ثِقَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَيزِيد هُوَ ابْن هَارُون أحد الْأَعْلَام أخرجَا لَهُ أَيْضا. وَكَذَا حَمَّاد بن سَلمَة إِلَّا أَن البُخَارِيّ أخرج لَهُ تَعْلِيقا. وَعبد الْكَرِيم، قَالَ النَّسَائِيّ فِي حَقه: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قَالَ: وَهَارُون بن رِئَاب أثبت مِنْهُ، وَقد أرسل الحَدِيث، وَهَارُون ثِقَة وَحَدِيثه أولَى بِالصَّوَابِ من حَدِيث عبد الْكَرِيم. وَقَالَ فِي سنَنه قبل ذَلِكَ: هَذَا حَدِيث لَيْسَ بِثَابِت. يَعْنِي الرِّوَايَة المرفوعة.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْخلْع، عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث، ثَنَا الْفضل بن مُوسَى، ثَنَا الْحُسَيْن بن وَاقد، عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا تمنع يَد لامس. فَقَالَ: غربها إِن شِئْت. قَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن تتبعها نَفسِي. قَالَ: استمتع بهَا».
ثمَّ أخرجه عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن النَّضر بن شُمَيْل، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، أبنا هَارُون بن رِئَاب، عَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن تحتي امْرَأَة لَا ترد يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي لَا أَصْبِر عَنْهَا. قَالَ: أمْسكهَا» ثمَّ قَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا خطأ وَالصَّوَاب مُرْسل.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي مُخْتَصر سنَن أبي دَاوُد: رجال هَذَا الحَدِيث مُحْتَج بهم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاق والانفراد.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحُسَيْن بن وَاقد تفرد بِهِ عَن عمَارَة بن أبي حَفْصَة، وَأَن الْفضل بن مُوسَى تفرد بِهِ عَن الْحُسَيْن بن وَاقد. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه: هَذَا حَدِيث مَشْهُور صَحِيح، وَإسْنَاد أبي دَاوُد صَحِيح.
وَأما ابْن الْجَوْزِيّ فَذكره فِي مَوْضُوعَاته من حَدِيث عبيد الله بن عُمَيْر، عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي، عَن أبي الزبير، قَالَ: «أَتَى رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس. قَالَ: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها. قَالَ: فاستمتع بهَا».
ثمَّ قَالَ: وَقد رَوَاهُ عبيد بن عُمَيْر، وَحسان بن عَطِيَّة كِلَاهُمَا عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ نقل عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا يثبت عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لَهُ أصل. قلت: وَهَذَا لَا يقْدَح فِيمَا أسلفناه من الطّرق.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَن حَدِيث معقل، عَن أبي الزبير، عَن جَابر... فَذكره، فَقَالَ: ثَنَا مُحَمَّد بن كثير، عَن سُفْيَان ثَنَا عبد الْكَرِيم: حَدَّثَني أَبُو الزبير، عَن مولَى لبني هَاشم، قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم...» فَذكره. وَرَوَاهُ غَيره، عَن الثَّوْريّ هَكَذَا فَسَمَّى هَذَا الرجل هشامًا مولَى لبني هَاشم قيل لأبي:
أَيهمَا أشبه؟ قَالَ: الثَّوْريّ أحفظ. ثمَّ تنبه بعد ذَلِكَ لأمر غَرِيب وَقع لصَاحب التنقيب فَإِنَّهُ عزا هَذَا الحَدِيث إِلَى البُخَارِيّ، وَهُوَ من الْعجب العجاب.
فَائِدَة: اخْتلف فِي مَعْنَى قَوْله: «لَا ترد يَد لامس» عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ الْفُجُور. مِنْهُم النَّسائي، وَقد بوب عَلَيْهِ كَمَا سلف تَزْوِيج الزَّانِيَة. وَمِنْهُم ابْن الْأَعرَابِي، فَإِنَّهُ لما سُئِلَ عَنهُ قَالَ: إِنَّه من الْفُجُور. وَمِنْهُم الْخطابِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي معالمه مَعْنَاهُ الرِّيبَة، وَأَنَّهَا مطاوعة لمن أرادها لَا ترد يَده. قَالَ: وَقَوله: «غربها» أَي أبعدها بِالطَّلَاق، وأصل الغرب الْبعد. قَالَ: وَفِيه دلَالَة جَوَاز نِكَاح الْفَاجِرَة. قَالَ: وَقَوله «فاستمتع بهَا» أَي: لَا تمسكها إِلَّا بِقدر مَا تقضي مُتْعَة النَّفس مِنْهَا وَمن وطرها، والاستمتاع بالشَّيْء الِانْتِفَاع بِهِ مُدَّة، وَمِنْه نِكَاح الْمُتْعَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع}. وَمِنْهُم ابْن الْأَثِير فَإِنَّهُ قَالَ فِي جامعه: مَعْنَى «لَا ترد يَد لامس» أَي أَنَّهَا مطاوعة لمن طلب مِنْهَا الرِّيبَة والفاحشة. وَمِنْهُم الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ اسْتدلَّ بِهِ عَلَى الْمَرْأَة إِذا لم تصن فرجهَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه بعد مَا أسلفناه عَن الْخطابِيّ: احْتج بالْخبر الْمَذْكُور جماعات من الْعلمَاء عَلَى أَن الْمَرْأَة إِذا لم تكن عفيفة يُستحب للزَّوْج طَلاقهَا، وَاحْتج بِهِ بَعضهم عَلَى صِحَة نِكَاح الزَّانِيَة، وَعَلَى أَن الزَّوْجَة إِذا زنت لَا يَنْفَسِخ نِكَاحهَا. قَالَ: وَهَذَا كُله مصير مِنْهُم عَلَى أَن المُرَاد باللمس: الزِّنَا.
قَالَ النَّوَوِيّ: فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَشَارَ عَلَيْهِ أَولا بفراقها نصيحة لَهُ وشفقة عَلَيْهِ فِي تنزهه من معاشرة من هَذَا حَالهَا، فَأعْلم الرجل شدَّة محبته لَهَا وخوفه فتْنَة بِسَبَب فراقها، فَرَأَى عَلَيْهِ السَّلَام الْمصلحَة لَهُ فِي هَذَا الْحَال بإمساكها خوفًا من مفْسدَة عَظِيمَة تترتب عَلَى فراقها، وَدفع أعظم الضررين بأخفهما مُتَعَيّن، ولَعَلَّه يُرْجَى الصّلاح بعد، ثمَّ شرع النَّوَوِيّ بعد فِي تَضْعِيف مَا سُوَى هَذَا القَوْل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن المُرَاد أَنَّهَا لَا ترد يَد من يلمس مِنْهَا مَالا. يَقُول: هِيَ سخية تضع مَا كَانَ عِنْدهَا.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي مَوْضُوعَاته: هَذَا الحَدِيث حمله أَبُو بكر الْخلال عَلَى الْفُجُور وَلَا يجوز هَذَا، إِنَّمَا يحمل عَلَى تفريطها فِي المَال لَو صَحَّ الحَدِيث. ثمَّ نقل كَلَام الإِمَام أَحْمد السالف فِيهِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي- عَلَى مَا نَقله ابْن صَخْر فِي فَوَائده-: إِنَّمَا كنى عَن بذلها الطَّعَام، وَمَا يدْخلهُ عَلَيْهَا لَا غير. وأوضح ابْن نَاصِر الْحَافِظ ذَلِكَ فِي جُزْء لَهُ مُفْرد وصوبَ هَذَا القَوْل وَخطأ الأول. وَنقل الْمُنْذِرِيّ عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ تُعطي من مَاله. فَقيل لَهُ: إِن أَبَا عبيد يَقُول: من الْفُجُور. فَقَالَ: لَيْسَ عندنَا إِلَّا أَنَّهَا تُعْطِي من مَاله، وَلم يكن عَلَيْهِ السَّلَام يَأْمر أَن يمْسِكهَا وَهِي تفجر. وَمَا حَكَاهُ عَن أبي عبيد خَالفه فِيهِ الْحَافِظ ابْن نَاصِر فَإِنَّهُ حَكَى عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّه من التبذير.
قَالَ: وَكَذَا ذكر غَيره من عُلَمَاء الْإِسْلَام، وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: مَعْنَاهُ: أمْسكهَا عَن الزِّنَا إِمَّا بمراقبتها وَإِمَّا بِكَثْرَة جِمَاعهَا. وَهُوَ حسن بَالغ.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث احْتج بِهِ الرَّافِعِيّ عَلَى أَن الزَّوْج إِذا تَيَقّن زنا زَوجته أَو ظَنّه ظنًّا مؤكدًا وَلم يكن ثمَّ ولد أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الْقَذْف، بل يجوز أَن يستر عَلَيْهَا ويفارقها بِغَيْر طَرِيق اللّعان، وَلَو أمْسكهَا لم يحرم. وَفِيه مُوَافقَة القَوْل الأول أَن المُرَاد بِهِ الْفُجُور، وَلَكِن فِيهِ مُخَالفَة لما ذكر الْحَافِظ ابْن نَاصِر فَإِنَّهُ ذكر لروايته لهَذَا الحَدِيث أَن لَهُ مِنْهَا ولد فَإِنَّهُ قَالَ: «شكى هَذَا الرجل إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا تعري طَعَامه، وتمره، ولبنه، وَأَنَّهَا تعطيه للسؤال، وَأَنَّهَا لَا تبقي فِي بَيت زَوجهَا شَيْئا من الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: طَلقهَا. قَالَ: إِنِّي أحبها ولي مِنْهَا ولد. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: فاستمتع بهَا». ثمَّ نَفَى بعد ذَلِكَ أَن يُعْطين من أبيتهن شَيْئا إِلَّا بِإِذن أَزوَاجهنَّ ثمَّ رخص لَهُنَّ بعد ذَلِكَ فِي الصَّدَقَة فَقَالَ: «إِذا أنفقت الْمَرْأَة من بَيت زَوجهَا بِالْمَعْرُوفِ بِغَيْر إِذْنه فالأجر بَينهمَا نِصْفَانِ للزَّوْج بِمَا كسب وللمرأة مَا أنفقت» وَرخّص لَهُنَّ فِي إطْعَام الْأَشْيَاء الرّطبَة الَّتِي إِذا تركت فَسدتْ وحُمَّت وَلم تُؤْكَل.

.الحديث الخَامِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة أدخلت عَلَى قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلم يدخلهَا جنته».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن يُونُس، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه سمع النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول حِين نزلت آيَة الْمُلَاعنَة: «أَيّمَا امْرَأَة أدخلت عَلَى قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء، وَلنْ يدخلهَا الله جنته، وَأَيّمَا رجل جحد وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، احتجب الله مِنْهُ، وفضحه عَلَى رُءُوس الْأَوَّلين والآخرين».
وَرَوَاهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه أَيْضا، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. قَالَ البُخَارِيّ: وَعبد الله بن يُونُس، عَن المَقْبُري رَوَى عَنهُ يزِيد بن الْهَاد يعرف بِحَدِيث وَاحِد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: عبد الله بن يُونُس يعرف بِحَدِيث وَاحِد، عَن سعيد، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم... وَذكر هَذَا الحَدِيث، رَوَى عَنهُ يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد، سَمِعت أبي يَقُول ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي علله: عبد الله بن يُونُس هَذَا لَا يعرف حَاله ولَا يعرف لَهُ راو غير يزِيد بن عبد الله بن الْهَاد، وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن يَحْيَى بن حَرْب، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: هَذَا حَدِيث يرويهِ مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي وَاخْتلف عَنهُ: فَرَوَاهُ بكر بن عبد الله بن عُبَيْدَة الربذي، عَن عَمه، عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَخَالفهُ زيد بن الْحباب فَرَوَاهُ عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة، وَأدْخل بَينه وَبَين المَقْبُري رجلا يُقَال لَهُ يَحْيَى بن حَرْب، وَهُوَ رجل مَجْهُول، وَقَول زيد بن الْحباب أشبه بِالصَّوَابِ. قَالَ: وَرَوَى هَذَا الحَدِيث يزِيد بن الْهَاد، عَن عبد الله بن يُونُس، عَن أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ صَحِيح، وَعبد الله بن يُونُس لَا أعرفهُ إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.

.الحديث السَّادِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أَيّمَا رجل جحد وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، احتجب الله مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة، وفضحه عَلَى رُءُوس الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة».
هَذَا الحَدِيث هُوَ قِطْعَة من الحَدِيث الَّذِي قبله، وَقد سلف بِلَفْظِهِ.

.الحديث السَّابِع:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ: «أَن رجلا قَالَ للنَّبِي: إِن امْرَأَتي ولدت غُلَاما أسود. قَالَ: هَل لَك من إبل. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا ألوانها؟ قَالَ: حمر. قَالَ: فَهَل فِيهَا من أَوْرَق؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَنى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسى أَن يكون نَزعه عرق. قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا نَزعه عرق».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَفِي روايتهما «وَهُوَ يعرض بِأَن يَنْفِيه فَلم يرخص لَهُ فِي الانتفاء مِنْهُ فَقَالَ: هَل لَك من إبل...» إِلَى آخِره.
فَائِدَة: الأورق الَّذِي فِيهِ سَواد ولَيْسَ بصاف، وَمَعْنى نَزعه عرق أشبهه واجتذبه، وَأظْهر لَونه عَلَيْهِ، وَالْمرَاد بالعرق هُنَا:
الأَصْل من النّسَب تَشْبِيها بعرق الثَّمَرَة، وَقد ذكرت اسْم هَذَا الرجل فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعه مِنْهُ فَإِنَّهُ مُهِمّ.

.الحديث الثَّامِن:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهِلَال بن أُميَّة: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنَّك لصَادِق».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه كَذَلِك من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «لما قذف هِلَال بن أُميَّة امْرَأَته قيل لَهُ: ليجلدنك رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِينَ جلدَة. قَالَ: الله أعدل من ذَلِكَ أَن يضربني ثَمَانِينَ ضَرْبَة، وَقد علم أَنِّي رَأَيْت حَتَّى استيقنت، وَسمعت حَتَّى استثبت، لَا وَالله لَا يضربني أبدا. فَنزلت آيَة الْمُلَاعنَة، فَدَعَا بهما النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين نزلت الْآيَة فَقَالَ: الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب فَهَل مِنْكُمَا من تائب. فَقَالَ هِلَال: وَالله إِنِّي لصَادِق. فَقَالَ لَهُ: احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنِّي لصَادِق- يَقُول ذَلِكَ أَربع مَرَّات- فَإِن كنتُ كَاذِبًا فعلي لعنة الله. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: قِفُوهُ عِنْد الْخَامِسَة فَإِنَّهَا مُوجبَة. فَحلف، ثمَّ قَالَت أَرْبعا: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِنَّه لمن الْكَاذِبين فَإِن كَانَ صَادِقا فعلَيْهَا غضب الله. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: قفوها عِنْد الْخَامِسَة فَإِنَّهَا مُوجبَة. فترددت وهمت بالاعتراف، ثمَّ قَالَت: لَا أفضح قومِي. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن جَاءَت بِهِ أكحل أدعج سابغ الأليتين، ألف الفخذين خَدلج السَّاقَيْن فَهُوَ للَّذي رميت بِهِ، وَإِن جَاءَت بِهِ أصفر سبطًا فَهُوَ لهِلَال بن أُميَّة. فَجَاءَت بِهِ عَلَى صفة النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا الحَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَلم يُخرجهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَة.

.الحديث التَّاسِع:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما أَتَت الْمَرْأَة بِالْوَلَدِ عَلَى النَّعْت الْمَذْكُور الْمَكْرُوه، قَالَ: «لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، من حَدِيث ابْن عَبَّاس كَذَلِك سَوَاء، وَهُوَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ بِلَفْظ: «لَوْلَا مَا مَضَى من كتاب الله» سلف أول الْبَاب.

.الحديث العَاشِر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمَا من رِوَايَة ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما بِلَفْظ: «المتلاعنان إِذا تفَرقا لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا»، وَفِي رِوَايَة لَهما من حَدِيث سهل: «فَفرق رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا وَقَالَ: لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد فِي حَدِيث سهل أَيْضا: «مَضَت السنةُ بعد فِي المتلاعنين أَن يفرق بَينهمَا، ثمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا» وَقد تقدم فِي أول الْبَاب قَول ابْن شهَاب: فَكَانَت بعد سنة فِي المتلاعنين.

.الحديث الحَادِي عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَين المتلاعنين وَقَضَى بِأَن لَا ترمى وَلَا وَلَدهَا، فَمن رَمَاهَا أَو رَمَى وَلَدهَا فَعَلَيهِ الْحَد».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما آخر حَدِيث هِلَال بن أُميَّة، وَفِي إِسْنَاده عباد بن مَنْصُور، وَقد تكلم فِيهِ غير وَاحِد وَكَانَ قدريًّا دَاعِيَة.

.الحديث الثَّانِي عشر:

عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، قَالَا: «جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أنْشدك الله أَلا قضيت لي بِكِتَاب الله. فَقَالَ: الْخصم الآخر وَهُوَ أفقه مِنْهُ: نعم فَاقْض بَيْننَا بِكِتَاب الله وائذن لي. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: قل. فَقَالَ: إِن ابْني كَانَ عسيفًا عَلَى هَذَا فزنا بامرأته، وَإِنِّي اجتزت أَن عَلَى ابْني الرَّجْم، وافتديت مِنْهُ بِمِائَة شَاة ووليدة، فَسَأَلت أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن عَلَى ابْني جلد مائَة وتغريب عَام، وَأَن عَلَى الْمَرْأَة الرَّجْم. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله، الوليدة وَالْغنم رد عَلَيْك، وَعَلَى ابْنك جلد مائَة وتغريب عَام، واغد يَا أنيس- رجل من أسلم- إِلَى امْرَأَة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها. فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْترفت فَأمر بهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت». قَالَ مَالك: والعسيف: الْأَجِير.
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا كَذَلِك، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ «فَافْتَدَيْت مِنْهُ مائَة شَاة وَجَارِيَة لي» وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ الوليدة: الْأمة، وَجَمعهَا ولائد.
وَأَرَادَ بقوله: «اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله» مَا كتب عَلَى عباده من الْحُدُود وَالْأَحْكَام وَلم يرد بِهِ الْقُرْآن؛ لِأَن النَّفْي وَالرَّجم لَا ذكر لَهما فِيهِ، وَقيل: إِن ذَلِكَ من مُجمل الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} فبينه الشَّارِع. قَالَ الرَّافِعِيّ: قَالَ الْعلمَاء: وَإِنَّمَا بعث أنيسًا ليخبر بِأَن الرجل الآخر قَذَفَها بِابْنِهِ لَا ليفحص عَن زنَاهَا.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: أنيس هَذَا هُوَ ابْن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ مَعْدُود فِي الشاميين، قَالَ ابْن عبد الْبر: وَيُقَال ابْن مرْثَد. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْأول أشبه بِالصِّحَّةِ لِكَثْرَة الناقلين لَهُ وَلِأَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْصد أَن لَا يُؤمر فِي الْقَبِيلَة إِلَّا رجلا مِنْهَا لنفورهم من حكم غَيره، وَكَانَت امْرَأَة أسلمية.
ثَانِيهمَا: رَوَى الحَدِيث الْمَذْكُور، ت، وس، وق وَفِيه ذكر: شبْل مَعَ أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد، وَقد قيل: إِن شبلاً هَذَا لَا صُحْبَة لَهُ. نَص عَلَى ذَلِكَ يَحْيَى بن معِين، وَيُشبه أَن يكون الشَّيْخَانِ تركاه لذَلِك.

.الحديث الثَّالِث عشر:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: رجل حلف يَمِينا عَلَى مَال مُسلم فاقتطعه، وَرجل حلف عَلَى يَمِين بعد صَلَاة الْعَصْر لقد أعْطى بسلعته أَكثر مِمَّا أعطي، وَرجل منع فضل المَاء».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَهَذَا لفظ البُخَارِيّ: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم رجل حلف عَلَى سلْعَة لقد أعْطى بهَا أَكثر مِمَّا أعطي وَهُوَ كَاذِب، وَرجل حلف عَلَى يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، وَرجل منع فضل مَائه، فَيَقُول الله لَهُ: الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك».
وَرِوَايَة مُسلم: «ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة، ولاينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم: رجل عَلَى فضل ماءٍ بالفلاة يمنعهُ من ابْن السَّبِيل، وَرجل بَايع رجلا سلْعَةً بَعَد الْعَصْرِ فَحلف لَهُ بِاللَّه لأخذها بِكَذَا وَكَذَا، فصدَّقه، وَهُوَ عَلَى غير ذَلِكَ، وَرجل بَايع إِمَامًا لَا يبايعه إِلَّا لدُنْيَا فَإِن أعطَاهُ مِنْهَا وفاه، وَإِن لم يُعْطه لم يفه».

.الحديث الرَّابِع عشر:

اشْتهر عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «فِي يَوْم الْجُمُعَة سَاعَة لايوافقها عبد مُسلم يُصَلِّي يسْأَل الله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ».
هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ وَسقط فِي رِوَايَات لَفْظَة «يُصَلِّي»، وَفِي رِوَايَة لمُسلم «وَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَام بِيَدِهِ يقللها» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «وَهِي سَاعَة خَفِيفَة» وَذكر الرَّافعي عقب رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث مَا نَصه، قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هِيَ السَّاعَة بعد الْعَصْر. اعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «يُصَلِّي» وَالصَّلَاة بعد الْعَصْر مَكْرُوهَة، فَأجَاب بِأَن العَبْد فِي الصَّلَاة مَا دَامَ ينْتَظر الصَّلَاة.
قلت: الْمَوْجُود فِي كتب الحَدِيث أَن ذَلِكَ من قَول عبد الله بن سَلام لَا من قَول كَعْب، والمعترض هُوَ أَبُو هُرَيْرَة.
وَكَذَا أخرجه مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَابْن حبَان وَالْحَاكِم فِي صَحِيحَيْهِمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَلَعَلَّ سَبَب مَا وَقع فِيهِ الرَّافِعِيّ أَنه وَقع فِي الحَدِيث أَن أَبَا هُرَيْرَة سَأَلَ أَولا كَعْب الْأَحْبَار، ثمَّ سَأَلَ عبد الله بن سَلام فَأَجَابَهُ، ثمَّ اعْترض عَلَيْهِ وأجابه بِمَا تقدم، فَتنبه لذَلِك.
فَائِدَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي تعْيين هَذِه السَّاعَة عَلَى عدَّة أَقْوَال كَثِيرَة وَقد أوضحتها فِي جُزْء مُفْرد فَرَاجعهَا مِنْهُ.